المتاحف والمعارض

متحف في الفضاء للأقمار التي خرجت من الخدمة

يمكن أن يقصد السائحون القمر "فانغارد"، أقدم ما أطلقه الإنسان للدوران حول الأرض
في 18 مايو/أيار 2009، وعلى ارتفاع ناهز 570 كيلومترا فوق سطح الأرض، مد رائد الفضاء جون غرنسفيلد يده ليكون آخر بشر يلمس منظار الفضاء “هابل”.

وقبل عودته إلى مكوك الفضاء أتلانتيس في نهاية مهمة الصيانة الأخيرة والشاقة للمنظار، استشهد بقول مأثور لمؤلف الخيال العلمي البريطاني آرثر سي كلارك قال فيه: “ليس من سبيل لمعرفة حدود الممكن سوى بتجاوزها إلى حدود اللاممكن”.

وفي حديثه عبر الإنتركوم إلى كبار الشخصيات الذين كانوا بانتظار الاطلاع على النتائج، أردف غرنسفيلد قائلا: “خلال هذه المهمة، قمنا بما ظنه كثيرون ضربا من المحال… متمنين لـ’هابل’ غاية التوفيق!”

ومن ثم أطلق المكوك المنظار ليعاود المضي في مداره، فيما تراجعت أتلانتيس تاركة وراءها المنظار يترقرق لامعا في الفضاء حتى غاب عن النظر.

مهام المكوك، لم يعد من مجال للقيام بمهمة أخرى لإصلاح المنظار، والذي من المنتظر أن يواصل عمله بضع سنوات أخرى يكشف خلالها أسرار الكون المبهر، قبل أن تتداعى مكوناته خلال العقد المقبل، ويبدأ في فقدان مداره – عندها يفنى هابل محترقا بدخوله المجال الجوي للأرض في مطلع ثلاثينيات القرن الحالي.

وينتهي المطاف بأحد أبرز منجزات العلم كما انتهى المطاف بكثير مما سبقه إلى الفضاء من طليعة الأقمار الصناعية، إلى كلب الفضاء لايكا، ومرورا بالمحطة الأمريكية “سكاي لاب”، والروسية “مير”.

إلا إذا كان هناك بديل يتجاوز “حدود اللاممكن” لإنقاذ هابل من تلك النهاية المؤسفة. إذ يقترح ستيوارت إيفز، مهندس الأقمار الصناعية والخبير بمخلفات الفضاء، الإبقاء على المنظار “تماما كما نحتفظ بالسفن والطائرات القديمة والسيارات والقطارات العتيقة في متاحف، حتى يتسنى للأجيال القادمة الاطلاع عليها!”

وبدلا من العمل على إعادة هابل إلى الأرض، في عملية باهظة شاقة على غرار ما فعله مكوك الفضاء بنجاح عام 1984 لإعاده قمري اتصالات، يحث إيفز – الذي يرأس المنتدى البريطاني لاستعلامات الفضاء، ويضم جهات حكومية وأخرى معنية بأمن الفضاء ومنشآته – الحكومة الأمريكية على إبقاء المنظار في مداره، خاصة أن ناسا كانت بحثت قبل مهمة الصيانة الأخيرة إمكانية الاستعانة بروبوت فضائي بدلا من البشر، لتفقد وإصلاح المنظار. ومن ثم يود إيفز الأخذ بتلك التقنية للاحتفاظ بالمنظار بعد انتهاء مهمته.

ويقول: “بالإمكان أن تقبض مركبة خاصة على المنظار لتعدِّل مساره وتعيده إلى مدار أعلى ليتسنى له مواصلة الدوران لأمد أطول. بعد ذلك نتعامل معه كما يتعامل القائمون على أي متحف في العالم مع القطع الأثرية حفاظا عليها من عوامل الزمن، إذ يمكن أن نحافظ عليه من الإشعاع، أو الارتطام بحطام الفضاء”.

ويقترح إيفز إطلاق قمر صناعي صغير من طراز الأقمار المكعبة التي لا يتجاوز حجمها حجم علبة حذاء، لتلحق بهابل في مداره، وترافقه في الفضاء و”تُسلَط كاميرا صغيرة عبر ذراع آلي على المنظار تبث صورا حية لزوار المتحف على الأرض عن طريق نظارات أشبه بنظارات الواقع الافتراضي. وهكذا يكون بإمكاننا متابعة المنظار”.

وبالإمكان الاستعانة بذات تكنولوجيا الأقمار الصغيرة لرصد قطع أخرى أثرية في الفضاء، مثل القمر الصناعي “تلستار” الذي كان أول قمر اتصالات تلفزيونية، أُطلق عام 1962 وما زال يدور في فلك غير منتظم قربا وبعدا عن الأرض، على مسافة ألف كيلومتر و5600 كيلومتر تباعا. وكذلك القمر “فانغارد-1″، وهو أقدم ما أطلقه الإنسان للدوران حول الأرض وما زال في مداره حتى الآن.

ويتابع إيفز: “سبق أن اقتُرح الاستعانة بالأقمار المكعبة الصغيرة لرصد محطة الفضاء الدولية، ومن ثم يمكن وضع كاميرا ذات صور فائقة الجودة قرب المحطة لتفقد أوضاعها، والوقوف على أي أضرار تلحق بها من الخارج”.

ولا يقتصر الأمر على الأقمار الصناعية حول الأرض، إذ يولي إيفز اهتمامه صوب آثار أخرى في الفضاء. فوكالة الفضاء الأمريكية ناسا تخطط للعودة مجددا للقمر، وبات يُخشى أن يعترض الرواد الجدد طريق أشياء خلفتها رحلات البشر، والرحلات الآلية السابقة إلى الفضاء، لذا تأسست مؤخرا هيئة دولية بعنوان “من أجل ريادة القمر” للتوعية بالأمر.

ومن بين مقترحات الهيئة، إقرار الأمم المتحدة لائحة حماية لتلك الآثار، من قبيل مركبات الرسو، والأعلام، بل وآثار خطى البشر على سطح القمر جراء بعثة أبوللو الشهيرة.

وربما يجيء يوم نرى فيه متحفا على سطح القمر، أو محمية للحفاظ على آثاره. وربما ارتأى البشر مستقبلا إعادة مخلفات فضائية إلى الأرض.

ويدعم إيفز بالطبع فكرة الحفاظ على آثار الرحلات السابقة، وربما أبرزها آثار أول خطوة خطاها الإنسان على سطح القمر، لكنه لا يرى أيضا تناقضا بين جهود الحماية وأي مسعى علمي يستعين بتلك البقايا في المستقبل.

ويقول: “من بين المقترحات الطريفة التي سمعتها العودة إلى الفضاء لاسترجاع أكياس الفضلات البشرية التي تركها الرواد في الفضاء. والسبب هو رغبة علماء البيولوجيا في معرفة تأثير بيئة الفضاء المغايرة تماما للأرض على البكتيريا الموجودة في البراز”!

ولن تكون هذه المرة الأولى التي تعاد خلالها “آثار قمرية” إلى الأرض. ففي نوفمبر/تشرين الثاني 1969، أرجع طاقم الرحلة أبوللو-12، كاميرا المسبار الآلي سيرفيور-3 لدراستها.

وفي بادئ الأمر، ظن العلماء أن مستعمرة بكتيرية بالكاميرا تمكنت من البقاء على قيد الحياة ببيئة القمر، إلى أن اتضح لاحقا أن البكتيريا على الأرجح نجمت عن سعال أحد المتفحصين للكاميرا بعد عودتها من الفضاء، إذ لم تتخذ احتياطات العزل السليمة.

لقد بات مرجحا أن يطأ البشر خلال العقد القادم مجددا سطح القمر، حيث يطالعون عليه آثار أقدام نيل آرمسترونغ. لكن هل كان طاقم مكوك الفضاء أتلانتيس عام 2009 آخر من يرى عن كثب المنظار هابل؟

ليس بالضرورة، إذ ربما تمكنت الأجيال القادمة من الدوران حول الأرض بمركبات خاصة تسبر أغوار الفضاء، وتلتقط صورا لبقايا الأقمار الصناعية المتهالكة. أما في المستقبل المنظور، فربما أمكن لقلة أسعفها الحظ الاطلاع عن قرب على آثار الفضاء.

ويختتم إيفز: “باتت بعض الشركات تأخذ على محمل الجد فكرة تشييد فنادق في الفضاء، وأصبحت تبحث عن أفضل المدارات لها. لذا، فوجود فندق يدور حول الأرض في مدارٍ موازٍ للمنظار، قد يتيح الفرصة لرؤية مناظر رائعة من النافذة، إذ ينظر السائح إلى الأرض أسفله، فإذا بمنظار فضائي عرفه البشر يوما باسم “هابل” يأتي محلقا قبل أن يتوارى عن الأنظار!”

المصدر : بي بي سي

الاقسام

اعلانات