مقالات

قلادة سومريّة على صدر «مجان»

عبدالرزاق الربيعي –
لفت نظري في الأسبوع الماضي خبر العثور على كتابة مسمارية تعود لحضارة بلاد الرافدين بمحافظة مسندم، هي الأولى من نوعها التي تكتشف خلال تنقيبات وزارة التراث والثقافة الأثرية بموقع الدير، ويعرف خبراء الآثار أن ظهور الكتابة المسماريّة يرجع إلى منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وظهرت في سومر بشكل تجسيدي (صوري) ثم تحوّلت إلى تجريدي (إشاراتي) واكتسبت اسمها في الغرب من خلال نقشها على شكل مسامير، وقد عرفها السومريون قبل ظهور الأبجديّة، ومن هنا يأتي يسبر غور مشيميّة الصلات بين شاطئين متقابلين على بحيرة واحدة اسمها الخليج الذي شهد تواصلا، وتلاقحا، وهجرات ستكشفها الأيّام دون ريب، مثلما كشف عن اللقية الأثريّة التي هي عبارة عن حجر لقلادة على هيئة (عين) نقشت عليها كلمة (دي . جو . لا) وهو اسم لإله الشفاء في بلاد الرافدين، ونعلم جميعا أن الشفاء اقترن بالحكمة والفلسفة حتى أن كلمة (صوفيا) اليونانيّة التي تعني (الحكمة) ومنها (في لو صوفيا) التي هي الفلسفة وتعني (حب الحكمة)، يعود أصلها إلى مفردة (شافي) البابليّة التي تعني (حكيم)، كما تشير إليها الدراسات الألسنيّة في الغرب، وما زلنا نتداول (الحكيم) بما يقابل الطبيب، فتلك التميمة في اللقية المسماريّة تحمل في طيّاتها أسرار الحكمة إلى جانب إعلانها عن شفاء العلل، ويشير الخبر إلى أن هذا الحجر كان يعلّق على صدر الإنسان ضمن قلادة تُستخدم كطلسم أو حرز للإتقاء من الأمراض، وكأن هذه القلادة البابليّة حملت سرًا أعمق يتعلق بالحكمة التي اقترنت بالطب، فكان (سكان قبائل أرض مجان يتقاسمون مع سكان بلاد ما بين النهرين الرموز الدينية والطلاسم) كما يقول البروفيسور موريسيو توزي الذي فحص الكتابة، ليكون رمزا للعلاقات الإنسانية التي تربط أبناء الحضارات العريقة، التي كانت تعيش في سلام ووئام، وليدحض الدراسات الأثرية التي أشارت إلى انقطاع التواصل التجاري والثقافي بين مجان والحضارات المجاورة، كما يشير الخبر.
حتى يوحي لنا أن ميراث الفكر الاعتزالي الذي وطأ قمّة العقلانيّة في الفكر الإسلامي هو الوريث الأكبر للفكر الاعتزالي العقلاني الذي انحسر هناك، وشاع هنا، ولا غرو إن تلمسناه حتى اليوم في الحكمة العمانيّة المتوارثة.
وللمكان سطوة وللبيئة حظوة فلا يتكامل السهل العراقي إلا مع الجبل العماني فكلّ له منتج يكمل الآخر حتى أن السومريين كانوا يرددون أنهم أتوا من أرض جبليّة وساحل سهّل هجرتهم للعراق ولا نستبعد أن تكون عمان هي المقصودة بتلك المواصفات.
والأيام حبلى بمفاجآت أخرى، قد يكون من سياقاتها اكتشاف آثار سومريّة على الساحل العماني يعادل اكتشاف موقع (موهانجودارو) على ساحل السند المقابل الذي يعود إلى 2100 ق.م، وهذا يشجعنا على تقفّي حقيقة أن أهل عمان تكلموا السومرية والآكدية والآرامية ثم ّتوّجتها العربيّة، مثلما أهل السواد، فلا تواصل دون لغة مشتركة والدليل ذلك وجود الكثير من المفردات المشتركة في الدارجتين العمانيّة والعراقيّة مثل (مو؟)التي لا تجدها إلا في اللهجتين حتى التبس الأمر لدى أحد زوار السلطنة فسألني: هل أنت عماني؟ فقلت له: أنا من العراق، فقال: ثمة تطابق في الأداء اللساني بينك والمحيط، فأخبرته إن اللهجتين العمانية والعراقية هما الأقرب عربيا، لذا لا يمكن الاستغراب إذا تلمسنا شغف العمانيين بالمنتوج الثقافي العراقي من شعر وغناء وموسيقى وأمثال سائرة وحكايات شعبيّة حتى نجد أن باحثا انجليزيّا زار العراق والسلطنة في ثلاثينيات القرن الماضي ليرصد المنتج القصصي الشعبي فوجد ثراء وتطابقا كبيرا بين المنتجين.
ونجد أن سمات الحضارة الإسلاميّة دائما ما تجمع بين البصرة وعمان، فمن الخليل بن أحمد الفراهيدي المولود في عمان عام 718م وانتقل إلى البصرة ليتلقى العلم هناك، وابن دريد الأزدي العالم اللغوي (223هـ/837م – 321هـ/933م) الذي ولد في البصرة، وانتقل إلى عمان بعد ظهور حركة الزنج، فأقام اثني عشر عاما، ثم عاد إلى البصرة بعد استقرار الأوضاع، وحتى عبدالله بن إباض التميمي أحد مؤسسي المذهب الإباضي حيث انتسب للبصرة، ويعتقد أن البصرة كانت الحاضنة الأولى لهذا المذهب، كل هذا يدلّ على أن المدد بين المكانين كان متواصلا في الروح، والعقل، ولن تنقطع أواصر الصلة بين الضفتين، ولم يتورع يحيى الواسطي البغدادي الذي نمنم مقامات الحريري في بغداد عام 1237م لتكون إحداها تحمل اسم (المقامة العمانية) وفيها يتحدّث الحريري البصري (446هـ/1054م – 6 رجب 516 هـ/11 سبتمبر 1112م) الذي قال عن مقاماته الزمخشري (حريٌّ بأن نَكتُبَ بالتبر) أقول: يتحدّث على لسان بطله الحارث بن همّام عن امرأة تعاني من عسر في الولادة فينجدها وهذه تحمل دلالة رمزيّة إلى المشاركة الوجدانيّة في المواقف الصعبة ومدّ يدّ المساعدة والعون التي تحرّكت من دواخل الشاعر أحمد شوقي عام 1927 التي ذكرها بقوله:
قد قضى الله أن يؤلفنا      الجــرح وأن نلتقي على أشجانه
كلما أنّ بالعراق جريح        لمس الشرق جرحه في عمانه
ولو وضعنا هذين البيتين تحت المجهر النقدي  متّبعين منهج تحليل الخطاب، سنكتشف السبب الكامن وراء اختيار شوقي لتلك الأواصر بين (العراق) في الشطر الأول و(عمان) في الشطر الثاني دون أن تملي عليه ضرورة القافية، لوجدنا أنّها وردت من شعور واطّلاع وبديهة.
ويذكر الحريري في (المقامة العمانيّة): صحار، والقلعة، والبحر، وهي قواسم مشتركة في عمان بما يؤكّد أن الحريري عرف هذه الأماكن، وربّما زارها، فوجد بين البصرة  وصحار خطا روحيا وثقافيّا مشتركا، فخصّ عمان بمقامته (العمانيّة)، مثلما تساءل عمرو بن بحر الجاحظ البصري عن سر البيان عند أهل عمان في كتابه (البيان والتبيين) في حديثه وهو يعرج إلى أهل عمان ممن خرجوا منها واستقرّوا في بلاد المهجر الشمالي ، (السواد العراقي) هذه الانتباهات لسمات التلاقحات الحضارية بين الجانبين والإشارات تحتاج اهتماما من أصحاب الشأن من الباحثين والمهتمّين بإرساء خطاب جديد للثقافة العربيّة الموحّدة.
وعودة إلى اللقية المسماريّة الرافدينيّة فقد جاء هذا الاكتشاف وغيره ليعطينا اليوم دليلا واضحا على عمق العلاقات العمانيّة ـ العراقيّة التي ستكون محور ندوة (العلاقات العمانية ـ العراقية تاريخا وحاضرا ومستقبلا ـ رؤى معاصرة) التي ستقيمها مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان ممثلة بمركز الدراسات والبحوث بالتعاون مع بيت الحكمة العراقي وذلك في 25 و26 من ديسمبر المقبل مشاركة من المؤسسة بفعاليّات بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام2013م لتعزيز (العلاقات الحضارية في المجالات المختلفة وإضفاء زخم في تأكيد عرى التواصل بين الثقافتين ودعم العلاقات الاقتصادية والتعاون التجاري المشترك والعلاقات الإعلامية والثقافية والفنية المستقبلية) وبحث أوصر الأخوّة والمشتركات لنتقاسم المعرفة والبحث مثلما تقاسم سكان مجان في العصور الغابرة مع سكان بلاد ما بين النهرين الرموز والطلاسم.

الاقسام

اعلانات