الاثار العربية المتاحف والمعارض

معرض فاطمة مرجاني.. إدارة الفراغ

image image

 

محمد بنعزيز
PM 07:04 2015-06-10
في اللوحة الأولى بقايا حريق، نفط وزفت وقطران. أثر أشبه ببصمة شفتين على اللوحة. يهيمن الأسود والرمادي. يبدو أن الرسامة قد استخدمت النار لتشكيل الزفت، وتوليد لمسة أسلوبية جديدة. تشتغل الرسامة على مواد طبيعية، بقايا الأرض.
أستعرض لوحات المهندسة فاطمة الزهراء مرجاني على إيقاع موسيقى ساكسوفون مؤثّر. في لوحات كثيرة، خطّ أفقي، لا يشبه ما تحته ما فوقه. توجد فوارق. أكاد أشمّ رائحة التراب في اللوحات. يصعب فصل الشكل ووجهة النظر ومادة الاشتغال. في وسط المعرض، نصب على توربين محرّك لاستخراج الماء من البئر. رمز التبذير في الاستهلاك. هذه مشكلة مَن؟
ترسم مرجاني من دون نزعة مدرسية. لكن الأشكال مصقولة. الصقل دليل على طول التفكير في الموضوع والأسلوب. ليس في اللوحة كتلة لونية ضخمة. تقتصد الرسامة. لم تقذف جمهورها بسطل من الألوان. تدير الفراغ بمهارة. تجعله معبراً عن أفق عاصف، وحسّ سوداوي. تستخدم ألواناً محايدة، والحياد ضعف في الفن. تدافع عن نفسها قائلة: “أفضّل الألوان المحايدة، لأنها تعبيرٌ عن اللاوعي أو الضيق”.
من النظرة الأولى، لا تقول اللوحات شيئاً. لوحات لم يعتدها المشهد الفني. يخلق الخروج عن التقاليد عوائق في التلقّي. لكن المشاهد لا يستطيع المرور بسهولة. هناك شيء ما يشدّه في ذلك الغموض واللامعنى.
ما الأشكال في اللوحة؟
ليس كمثلها شيء. هناك تجريد يتجنّب محاكاة مظاهر الطبيعة الملموسة. كانت الصُوَر في الشعر العربي القديم ملموسة، ومستقاة من بيئة الشاعر. لذلك، شبّه الشاعر نفسه بالذئب المنبوذ، وشبّه الممدوح بالغيث، وشبّه عيون النساء بالمها وقدودهنّ بالغزلان. التشبيه يسهّل الفهم، والتجريد يعقِّده. حين تغيب المحاكاة، وحين يغيب وجه الشبه، يشعر المشاهد الشعبي بالملل لأن المعنى يتأخر في الوصول إليه. طبعاً، الغموض مزعج. هنا، أكتشف مشكلة شخصية في التلقّي. بدأ اهتمامي بالرسم من باب السينما. زيارة معارض التشكيل تدريب متأخّر للعين بالنسبة إليّ، خاصة في قاعة فاخرة ملحقة بفندق فخم. المكان يُلهم الأسئلة: كيف يكون مُخرجاً يؤطّر اللقطات من يجهل تاريخ الفن التشكيلي؟ كيف يرسم ويحكي بالضوء من يجهل تراكمات الرسم بالحبر؟ يملك المخرجون الغربيون سبقاً كبيراً في المجال. لذا، اكتسبوا تراثاً بصرياً يفتقده غيرهم. وُلدوا في مدن متاحف، وصلّوا في كنائس على سقوفها لوحات عظيمة. الخيال الدينيّ المسيحيّ مرئيٌّ ومُصوّر. لهذا أثر مذهل. فعندما كتب ستاندال روايته، كان يميّز بين دلالة “الأحمر والأسود”. كان الشاعر غوته مُنظّراً للون والضوء ضد اسحاق نيوتن، الذي يجهل جمال قوس قزح. رسم يوجين دولاكروا الشاعر دانتي في الجحيم، بينما ساهم سالفادور دالي ذو العين الغريبة في كتابة سيناريو الفيلم الشهير “الكلب الأندلسي” (1929) للوي بونويل. في العالم الذي عشت فيه، التصوير حرام. لا مكانَ للتماثيل. حين تكون في مكان ما تنسف كما حصل لتمثالي أبي تمام والموصلي. للمقارنة، أول متحف مغربي في الرباط افتُتِح في العام 2014.
مع هذا الفارق الزمني بين باريس والرباط، الغموض يعرقل مسالك الفهم. الحلّ؟ التأويل والتفسير. توجّهت إلى الرسامة: تشتكين من التزايد الفادح للاستهلاك. هذه مشكلة مَن؟ أجابت: “مشكلة الناس جميعهم”. الغريب أن الذين يستهلكون أكثر هم مَن يشتكون. يعيشون في الرخاء، ويضرّون بالبيئة. المعرض موجّه إليهم، لهذا تمّ تنظيمه في بهو فندق فخم تقدّسه نخبة الرباط ذات الذوق البورجوازي. كيف ترى تشكيلية برجوازية العالم؟ أجابت الرسامة: “هذا ليس فنّاً موجّهاً إلى البورجوازية. أنا لست بورجوازية. أنا أحلب البقرة”. بحماستها للدفاع عن نفسها، يظهر كم صارت صفة “بورجوازي” تهمة. قلتُ: “هذا فضاء مغلق راقٍ لا يصله الشعب”. أجابت: “صحيح. نظّمت معرضي في مكان راقٍ. لكن، لو نظّمته في مكان بسيط، هل كنتَ ستأتي؟”. لم أجب. لكن، من نظراتي فهمت أنه لا. يبدو أن النخبة تفضّل مكاناً لا ترى فيه الشعب.

الاقسام

اعلانات