الاثار العربية

البناء بترومين الكورانية.. سراديب ودهاليز وأقبية أثرية متلاصقة ومعالم قديمة طمرها الجهل والنسيان

51

دقت ساعة الصفر وحان الوقت لبزوغ فجر جديد في بلدة بترومين الكورانية ولتستيقظ الاقبية والدهاليز القديمة والكنوز المدفونة التي تعود بالتاريخ الى العهد الروماني وما قبله.
وقريباً جداً سيُميط المجلس البلدي فيها اللثام عن المملكة الرومانية الموعودة التي انطلقت الشرارة الاولى حول اكتشاف معالمها حين قرر المجلس منذ اعوام قليلة تشييد المبنى البلدي وسط البلدة قرب كنيسة السيدة فعمد الى شراء احد العقارات التي تحوي مبنى قديم العهد ويحتاج الى ترميم وبعد المباشرة بالاشغال ظهرت سراديب ودهاليز واقبية اثرية متلاصقة تحت الارض يمكن الدخول والخروج منها من باب واحد لتشكل جميعها معالم قديمة لآثار غابت عنها الأعين وطمرها الجهل والنسيان.
 وهذه المعالم الاثرية وضعت البلدية يدها على قسم كبير منها ونفضت عنها الغبار حتى بانت بثوب جديد يُبهر الابصار ويغني الحدث وباتت محطّ اعجاب كل من زارها من حيث لم يعلم عن ماضيها او حاضرها شيئاً كما اصبحت مصدر الهام لهواة الثقافة والتراث وكل يراها من زاوية مغايرة للاخرى حتى ضجت بها جميع وسائل الاعلام المرئية والمسموعة حتى الفضائيات لتصل الى ابناء المعمورة قاطبة.
موقع البلدة
تقع بترومين جنوب شرق مدينة طرابلس على ارتفاع 324 مترا عن سطح البحر وتبعد عن بيروت مسافة 82 كلم وعن طرابلس عشرة كلم.
ومن اهم عائلاتها: القطريب القبرصي منصور مليس غانم الديري النجار الفاخوري شيخاني فياض وحريكي.
ويبلغ عدد المقيمين الفعليين فيها حوالى 1500 نسمة والغالبية الساحقة من اهالي البلدة تعيش في بلاد الاغتراب خصوصاً اميركا استراليا والبرازيل.
اسم بترومين
تسمية بترومين وفق اللغات القديمة كما ذكر الباحث في علم التراث والآثار سامي فرحات ان «بت او بيت او بات لكنات مختلفة تعني جميعها المسكن او المنزل ورومين او روميين او الرومان. وال»ين» جمع تذكير كما هي «وت» جمع تأنيث وفي المنحى اللغوي روم وآرام وارم هي المكان العالي جغرافيا من الارض او التلة المرتفعة والحصينة. انها معسكر الاشراف والقادة فيها مركز حراسة من الجند لهؤلاء القادة والاشراف وهذا ما تؤكده الاقبية والسراديب السفلية المتواجدة في القرية. وبالتالي تصبح صفة العالي لغوياً اشارة الى ان المقيم فيه من البشر هو الحاكم اي ما يسمى بالباب العالي.
وفي اطار آخر للتسمية اعطى فرحات لاسم بترومين تفسيرات اخرى «فبترو يعني الصخر المنتصب ومين الارض الزراعية الخصبة والشعب القوي ذو النسل الكثير. وفي هذا السياق يصبح المفهوم اللغوي ما قبل الرومان ان قرية بترومين هي ارض العزة والقوة في شعبها والاخصاب في ارضها وارحام نسائها».
وأكد الدكتور سامي المصري في دراسة له عن بلدة بترومين الكورانية ان «لها تاريخاً كبيراً وهذا ما يظهر في امثال حقة من البيوت اللبنانية المتخطية حدود القرية الامر الذي يجعلها تبدو قرية من القرون الوسطى القديمة وقد كشفت دراسة الهندسة القديمة الباقية وبعض النماذج الخزفية ان للقرية جذوراً من العهد البيزنطي كما انها نشأت اساساً في القرون الوسطى. واضافة الى ذلك فإن المحافظة على نماذج من الاسلوب اللبناني للبيوت والذي يحمل آثاراً من الاتجاه الصليبي والمملوكي في البناء يجعل القرية من الموجودات القيّمة وشهادة حية عن ثقافة العصور والشعوب القديمة».
واعتبر أن بترومين مهمة ثقافياً لأنها: قرية ذات دلالة واهمية تاريخية واثرية قرية اصيلة بأبنيتها القديمة ذات الطابع التقليدي حولها محيط طبيعي ذو جمالية عالية وهي مثال ممتاز عن قرية لبنانية حية».
ولفت الى ان «بترومين تشكل افضل مثال للتواصل بسبب تراثها الاثري والهندسي القيّم. فالمنازل القديمة لا تحمل وحدها ميزة الجمال بل ان قلب الموقع بأسره يبرهن عن نظام تجمعات ومعلومات معقدة».
كما أشار الى ان «بترومين حافلة بالذكريات عن مركز رهباني قديم تتوسطه كنيسة ويبدو هذا التركيب بالكامل محمياً بهضبة على قمتها صخور كبيرة مبعثرة وقد تنتمي تلك البقايا الى مركز مراقبة او حراسة داخل برج مراقبة وفي الواقع يبدو ان وفرة الابنية في مناطق عصر الزيتون تعيدنا الى هذه الفرضية. كما ان اصالة هذا التجمع التاريخي تجعل منها مثلاً فريداً لكيان تاريخي محافظ عليه جيداً وذا مقومات ثقافية عالية».
وركز على ان «الصفات الثقافية لبترومين التي تجسد الطابع التاريخي للقرية وايضا المادة والنسيج والعناصر الروحية التي تعبّر عن الصفات وهي تتلخص بأمثلة مدينية تتجسد بالطرق والاراضي والابنية العلاقات بين مختلف الابنية والمساحات الخضراء المفتوحة الشكل الداخلي والخارجي للابنية كما يحدده قياس وشكل ونوع البناء والمواد واللون والزخرفة العلاقة المتبادلة بين القرية ومحيطها الذي يتألف من الطبيعة والانسان والوظائف والادوار التي اكتسبتها القرية مع الوقت واهمية هذه الادوار في تشكيل المحيط الاجتماعي والطبيعي في الماضي والمستقبل على مستوى الابنية الخاصة».
واكد انه حين تؤخذ هذه الصفات الثقافية في الاعتبار فإن طريقة الصيانة والحماية المناسبة للطابع التاريخي لبيت رومين يقدر ان يتجلى وقرارات الحماية والصيانة والحفاظ على هذا التراث المهم قد تؤخذ حينها.
عضو اللجنة الثقافية والتراثية
وفي لقاء مع عضو اللجنة الثقافية والتراثية التابعة لبلدية بترومين الدكتور نبيل القطريب تحدث عن الموقع الطبيعي للآثار في البلدة والنطاق الجغرافي لها ومركزها الاستراتيجي بالنسبة للمنطقة واصفاً البلدة «بالمملكة الرومانية حيث انها كانت تشكل نقطة ارتكاز والتقاء بين المناطق الساحلية وكانت طريقا للقوافل عكار – طرابلس والمناطق العليا عند قصر الناووس عين عكرين – رجدبين كما ان وجود أكثر من خمسين بئراً في المنطقة يؤكد اهمية المنطقة من ناحية الموارد البشرية والزراعية والخصوبة في التربة اضافة الى وجود الكهوف خصوصاً «كهف وادي كوة» الذي كان مقرّ سكن الانسان البدائي الاول في العصر الحجري قبل اعتماد بناء المنازل وقد وضعت البعثة اليابانية حولها دراسات وهي موجودة اليوم في مديرية الاثار – متحف بيروت».
وتناول القطريب العقود الاثرية في البلدة والتي «يبلغ عددها تسع والاربعين عقداً وهي متداخلة مع بعضها البعض يمكن الدخول اليها من مدخل واحد يثبت وجود قرية قديمة قائمة بذاتها لها المقومات الحياتية المكتملة والجدران التي تبلغ سماكتها بين المتر ونصف المتر والمترين وضخامة التيجان عند رأس الاعمدة ووجود النواويس بكثرة والافران البدائية كالتنور كلها تُظهر مقومات العيش واللحمة الاجتماعية والابعاد الاقتصادية التي تدل على وعي ونمو وتطور لافت».
ولفت الى «ان اللجنة في البلدة بصدد اجراء دراسات علمية اثرية مكثفة بالتنسيق مع اللجنة الوطنية للآثار ورئيس اللجنة الثقافية في الاونسكو جو كريدي ومديرة معهد برلين للاثار الدكتورة مرغريت فان آس وذلك بخط متواز مع الدراسات والابحاث التي تجري بمساعدة المكتبة العامة في جامعة الروح القدس – الكسليك والمكتبة الشرقية التراثية في شارع مونو وهذه الدراسات يكتمل العمل فيها نهاية شهر تموز المقبل وهي بغالبيتها تعتمد على وثائق ودراسات لمستشرقين وموسوعات في علم الاثار».
وأشار القطريب اخيراً الى ان «الملفت في جديد الاكتشافات في البلدة وجود طبقتين متتاليتين مدفونتين تحت الارض واعمال التنقيب كفيلة بإماطة اللثام عن هذه الموجودات الاثرية وهي المملكة الرومانية الموعودة والتي سبق الكلام عنها في المراجع القديمة».
نائب رئيس المجلس البلدي
وفي الاطار نفسه أكد نائب رئيس مجلس بلدية بترومين المهندس حميد القطريب «ان البلدية بصدد زيادة اعمال التنقيب الفعلية والحصول على المعلومات الموثقة والايضاحية حول المباني التاريخية المطمورة في البلدة وهي لهذا الغرض تعمل على الاستعانة بالخبراء المعنيين ووسائل التنقيب اللازمة لتزويدها بكل ما يتعلق بتاريخ البلدة خاصة التي يعود منها الى الحقبة الممتدة من العهدين الفاطمي والمملوكي وما قبلهما من خلال بعض المساكن التي تملكها البلدية او تلك التي تسعى الى امتلاكها والتي تحاول عبرها احياء التراث بالقدر الذي تستطيع اليه سبيلا».
وتطرّق الى «المشروع المستقبلي للبلدة والذي تسعى البلدية الى انجازه وهو احياء قرية تراثية جميلة تحوي سوقاً تجارياً لتصريف الانتاجات الزراعية المحلية لمختلف قرى القضاء وملتقى ثقافي تراثي يجمع الصناعات الحرفية واليدوية والادوات التقليدية الاثرية».
واعتبر ان هذا المشروع بمثابة «تحد كبير امام المجلس البلدي الذي يسعى جاهدا الى تحقيقه منذ اطلاق اعماله بعد فترة الحرب الاهلية وقد كان للمجلس البلدي الاول الفضل الكبير في وضع اليد على الاثار والبدء في مسيرة التنقيب وتشييد القصر البلدي الذي لا تزال اعماله مستمرة بفضل جهود ومتابعة المجلس السابق والمجلس الحالي ويتوقع له مستقبلاً ان يكون من القصور البلدية المميزة والنادرة جداً».
المديرية العامة للآثار
يذكر انه بعد كشف المديرية العامة للاثار على المعالم الاثرية والتراثية في بلدة بترومين صدر عنها بتاريخ 3 تشرين الثاني 2009 التقرير التالي:
«تبين ان المعالم الاثرية عبارة عن عناصر من معاصر حجرية متفرقة في البلدة اضافة الى مغاور وادي كوة التي تعود الى العصر الحجري القديم الاوسط. اما بالنسبة الى المعالم التراثية حيث من اللافت ضآلة البيوت ذات القناطر الثلاث فيتبين وجود مجموعة من المباني الحجرية القديمة المتميزة من جهة بأنماط بناء اقسامها العلوية والسفلية تحتوي احيانا كثيرة على عقود متصالبة او اسطوانية وطابقها العلوي وقناطر داخلية ومن جهة اخرى بأنماط فتحات مميزة بشكلها المنحني ضمن الجدران المستعملة السميكة للطوابق الارضية وفتحات ذي قناطر مزدوجة في الطوابق العلوية. اما الحجارة المستعملة فهي كلسية مع الاشارة الى ان بعضها كان عائدا الى ابنية اثرية وقد اعيد استعماله.
تتركز هذه البيوت في محيط كنيسة السيدة والطرق المؤدية اليها من مداخل البلدة وتشكل بالتالي بأنماطها المميزة والطرقات الضيقة التي تصل فيما بينها نسيجاً متماسكاً يضفي طابع البلدة الذي تجدر المحافظة عليه.
يتم حالياً تأهيل أحد هذه المباني ليكون مقراً للبلدية وهو يتألف من مجموعة أقسام مبنية على مراحل مختلفة بالحجر المقصوب والمنحوت ومتميزة بالعقود الحجرية على مستوى الطابقين مع زيادة اتساعها وارتفاعها في الطابق العلوي.
الى مجموعة المباني تجدر الاشارة الى كنيسة السيدة الواقعة داخل البلدة والمباني المحيطة بها وهي تعود الى مراحل مختلفة كما الى كنيسة مار ضومط الواقعة خارج البلدة بين حقول الزيتون.
رئيس المجلس البلدي
وفي لقاء شامل مع رئيس مجلس بلدية بترومين المهندس لويس القبرصي عن انجازات المجلس البلدي منذ تاريخ توليه الرئاسة والمشاريع المستقبلية الموضوعة للتنفيذ استعرض أهم الانجازات وهي: «متابعة اعمال بناء القصر البلدي استكمال الدراسات المتعلقة بالتراث والمواقع الاثرية في البلدة تعبيد وتزفيت الطرق الداخلية في البلدة على مسافة 2700 متر مربع صيانة الطرقات تزيين البلدة في فترات الاعياد اطلاق اعمال تنفيذ موقف للسيارات عند كنيسة السيدة بعد استكمال شراء العقار تخطي البلدية المرحلة الاولى والثانية بنجاح للحصول على هبة من برنامج الامم المتحدة الانمائي بقيمة 50 الف دولار اميركي يتم جمعه من المغتربين من ابناء البلدة اضافة الى تنظيم سلسلة من الندوات والمحاضرات الصحية والتربوية والبيئية والاحتفال بالاعياد وتكريم المسنين والامهات في البلدة تنظيم حملات نظافة مستمرة ووضع مستوعبات جديدة للنفايات ودعم الفريق الرياضي في البلدة وتأمين التدريب لاعضائه من قبل اختصاصيين».
اضاف: «اما المشاريع الرئيس المستقبلية فهي كثيرة ومنها انشاء طريق بترومين – برسا لما لها من اهمية في ربط البلدتين خصوصاً ان الكثير من الحرائق تشب فيها ويتعثر وصول الاطفائية اليها توسيع طريق بترومين – بطرام حيث يوجد ثلاث مدارس في المنطقة نفسها تحسين طريق بترومين – النخلة خصوصاً منطقة الحدود الفاصلة بين البلدتين تزفيت بعض الطرقات الداخلية حيث يلزم بانتظار مساعدة النواب لتزفيت المتضرر منها اكمال العمل على ترميم المبنى البلدي التراثي وتجهيزه ليصبح المقر البلدي الجديد العمل مع وزارة الثقافة ومديرية الآثار على تصنيف المنطقة القديمة في بترومين أثرية للحفاظ عليها ولاحقاً العمل مع الاونيسكو لتصبح البلدة على لائحة التراث العالمي انشاء ناد رياضي في البلدة وملعب بمواصفات عالمية في حرم المدرسة الرسمية سابقاً والذي ترجع ملكيته الى وقف كنيسة السيدة وتنفيذ بعض الطرق المذكورة في المخطط التوجيهي حسب اهميتها وعند توفر الاعتماد المطلوب لذلك». وفي ما يتعلق بتصنيف الاراضي في بترومين لفت قبرصي الى انه قدم اقتراحاً الى التنظيم المدني آخذاً في الاعتبار مصالح المواطنين مع المحافظة على الطابع القروي والتراثي والغطاء الاخضر وما تبقى من اراض زراعية ما يحول دون تحويل البلدة الى مدينة بانتظار الموافقة.
ان تراث بيت بترومين الثقافي شيء قيّم وثمين يجب تقديره وحمايته من اجل المستقبل كما انه مصدر مهم للقرية ويمكن استثماره على الصعيد الاجتماعي العلمي والاقتصادي واذا ما اولي امر حماية تراث بترومين بشكل كامل وشامل ومنطقي يمكن للقرية حينئذ ان تتحول الى رمز فريد لاحياء الثقافة اللبنانية الريفية ما يؤثر بشكل جوهري على ادارة التراث الثقافي في لبنان عامة.

الاقسام

اعلانات