السياحة بالعالم

الحدائق «التاريخية» في مراكش.. ذاكرة للمدينة ومتعة للناظرين

travel3.737307

تعرف مدينة مراكش المغربية بعدد كبير من البنايات الأثرية المشهورة، مثل «صومعة الكتبية» و«مدرسة ابن يوسف» و«قصر البديع» و«قبور السعديين» و«القبة المرابطية»، وغيرها من البنايات، التي أصبحت شاهدا على الأسر التي توالت على حكم المغرب. وإلى جانب البنايات الأثرية، يوجد، في مراكش، عدد كبير من الحدائق «التاريخية»، التي تؤكد أن تاريخ المدينة الحمراء كتب عبر حدائقها، أيضا. ومن أشهر حدائق مراكش نجد «أكدال» و«المنارة» و«مولاي عبد السلام» و«ماجوريل».

وعلى الرغم من أن الشمس تسكن سطحها وسماءها على مدار السنة، فإن كثرة الحدائق بمراكش ظلت تثير التعجب والحيرة لدى كل من يؤمن بأن الشمس مرادف للجفاف والأرض الجرداء القاحلة. وهو ما دفع عشاق مراكش، التي تلقب بـ«المدينة الحمراء»، إلى إعطائها لقب «المدينة الخضراء».

وغالبا ما يثار اسم يوسف بن تاشفين (1061م – 1107م) حين يتم الحديث عن زمن التأسيس وتاريخ مراكش، هذا القائد المرابطي الذي كان له فضل وضع الأساس لأول بناء في هذا المكان الذي صارت تؤمه أفواج السياح من كل فج عميق، والذي تنقل كتب التاريخ أنه كان عبارة عن «موضع صحراء رحب الساحة، واسع الفناء.. خلاء لا أنيس به إلا الغزلان والنعام، ولا ينبت إلا السدر والحنظل». كانت هذه خريطة وجغرافية مراكش قبل أن يحفر يوسف بن تاشفين الآبار ويجلب المياه، لتتحول المدينة إلى «وردة بين النخيل».

ولعل ما يميز حدائق مراكش أن لكل حديقة تاريخها الخاص الذي يميزها عن الحدائق الأخرى. وللوقوف على تاريخ المدينة «من وجهة نظر» حدائقها، نكتفي، هنا، بتقديم «حكاية» ثلاث منها، تعود الأولى إلى القرن الثاني عشر، والثانية إلى القرن السابع عشر، بينما تحسب الثالثة على التاريخ المعاصر للمدينة.

* حدائق المنارة

* فضلا عن تاريخها، تتميز حدائق «المنارة» بصهريج الماء وبجناحها الملكي. ويقال إن الصهريج قد أقيم عام 1157، في عهد السلطان عبد المؤمن بن علي الكومي، لكي يتدرب فيه جنود الموحدين على السباحة وفنون القتال البحري، قبل التوجه إلى الأندلس، أو الانتشار لحماية السواحل المغربية من هجمات الأوروبيين.

ومن أشهر المعارك التي خاضها الموحدون في الأندلس معركة «الأرك» (1195م)، تحت قيادة السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور، التي كان لها دور كبير في توطيد حكم الموحدين في الأندلس، وشبه المؤرخون وقع «الأرك» ونتائجها بمعركة «الزلاقة» (1086م) التي دحر فيها المرابطون، تحت قيادة أميرهم يوسف بن تاشفين، جند ألفونسو.

وخلال حكم السعديين جرى إصلاح وإعادة استغلال «المنارة» فضاء للاستراحة. وفي القرن التاسع عشر، في عهد سيدي محمد بن عبد الرحمن، السلطان العلوي الذي لقب بـ«محمد الرابع» وحكم ما بين 1859م و1873م، تم توسيع المحيط الجغرافي للموقع، حيث عُززت مصادر مياهه، كما بُني الجناح الملكي.

واليوم، تقدم حدائق «المنارة»، حسب المتخصصين، الشكل النموذجي والكلاسيكي للحدائق الملكية المغربية، التي نجد لها مثيلا في حدائق «أكدال» بمراكش وصهريج «السواني» في مكناس وجنان «السبيل» في فاس. ويرجح المهتمون بعالم الحدائق أن تكون هندسة «المنارة» قد استلهمت من هندسة حدائق الأندلس.

ويقول العربي الفيلالي، الذي يحرس الجناح الملكي بـ«المنارة»، ويقوم بتقديم شروح تعريفية بالبناية للزوار، منذ أزيد من أربعين سنة، لـ«الشرق الأوسط»: «يعود تاريخ (المنارة) إلى الموحدين، على عهد عبد المؤمن بن علي الكومي، الذي أعد الصهريج لتدريب الجيش على السباحة، قبل العبور إلى الأندلس. وحين جاء العلويون قاموا ببناء الجناح الملكي، وذلك في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن. ويبلغ عمق الصهريج مترين ونصف، بينما يبلغ طوله 200 متر وعرضه 160 مترا، أما الماء فيجلب من جبال الأطلس عبر مدخلين، وجرى تصريفه عبر ثلاثة مخارج لسقي أكثر من 10000 شجرة زيتون».

وتقول الكتابات المتخصصة حول حدائق مراكش إن الحاجة الكبيرة من المياه اللازمة لسقي حدائق «المنارة» تؤمن بواسطة تقنية «الخطارات»، التي هي أنظمة تقليدية لجر المياه إلى سطح الأرض، تستعمل بشكل خاص في المناطق الجافة وشبه الجافة، وتعتمد على قنوات تحت أرضية تستخدم لصرف المياه من الفرشة المائية ونقلها إلى سطح الأرض، حيث تتحول إلى سواقٍ توجه المياه إلى الحقول والمساكن.

ويعلو مدخل الجناح الملكي عبارة «باسم الله ما شاء الله.. نصر من الله وفتح قريب». وتتكون البناية، التي يحيط بها سور من التراب المدكوك، من طابقين، ويعلوها سقف تقليدي ذو شكل هرمي مغطى بالقرميد الأخضر، فيما يتكون الطابق السفلي، من أربعة أعمدة عالية وفضاء مفتوح، يؤدي إلى شرفة تطل على البركة المائية.

ويصعد زائر الجناح الملكي إلى الطابق العلوي عبر درج من 25 خطوة، قبل أن تنفتح شرفته على منظر رائع وشامل يطل على الحديقة والصهريج، بينما تعلو القوس المؤدية إلى الخارج نقيشة بها كتابات في مدح الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، تتوسطها أرقام تشير إلى تاريخ البناء: 1286هـ، أي ما يوافق 1870م.

* عرصة مولاي عبد السلام

* تتميز «عرصة مولاي عبد السلام» بتاريخها الذي يعود إلى نحو ثلاثة قرون، فضلا عن حاضرها الذي جعلها توصف بـ«حديقة الإنترنت»، بعد أن تمت إعادة تهيئتها، في إطار شراكة مع أحد الفاعلين في قطاع الاتصالات.

وفي مراكش، لا يمكن الحديث عن تاريخ «عرصة مولاي عبد السلام» من دون استحضار اسم السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1710م – 1790م)، كما يقترن الحديث عنها بحكاية فندق «المامونية» الشهير، الذي يستمد اسمه من الحديقة، التي عرفت في الماضي بـ«عرصة مولاي المامون».

علاقة «عرصة مولاي عبد السلام» و«عرصة مولاي المامون»، بالسلطان العلوي، سيدي محمد بن عبد الله، تجد صداها في بعض الكتابات التاريخية التي تذهب إلى أن كثيرا من البساتين والحدائق الموجودة في المدينة الحمراء كانت من تخطيط هذا السلطان، الذي «كان كلما بلغ أحد أبنائه سن الزواج زوجه ووهب له مسكنا خارج القصبة وأحاطه بالبساتين والجنان». وكانت «عرصة مولاي المامون»، هي هدية زواج السلطان العلوي إلى ابنه، الأمير مولاي المامون، في حين كان من نصيب أبناء السلطان الآخرين، وضمنهم الأمير مولاي عبد السلام، حدائق أخرى، في مراكش.

وتذكر كتابات المؤرخين أن مولاي المامون جعل من هدية والده مكانا للنزاهة، وهي العادة التي طبعت مراكش وميزت حياة المراكشيين على مدى قرون، من جهة خروجهم خلال العطلات إلى حدائق المدينة لقضاء ساعات من المتعة والنزهة، مصطحبين معهم فرق الموسيقى و«متسلحين» بأكلة «الطنجية» المراكشية الشهيرة، وغيرها من عناوين المطبخ المراكشي.

وفي الوقت الذي تحولت فيه «عرصة مولاي المامون» إلى فندق «المامونية» الشهير، الذي ظل يستقبل، منذ أن فتح أبوابه عام 1923، مشاهير السياسة والاقتصاد والفن في العالم، حافظت «عرصة مولاي عبد السلام»، التي تقع بجانب «باب النقب»، مقابل «قصر البلدية»، وعلى مسافة خطوات من فندق «المامونية» وصومعة ومسجد «الكتبية»، على وظيفتها بوصفها متنفسا أخضر في المدينة الحمراء قبل أن تنفتح قبل سنوات على التكنولوجيا الحديثة لتنتصب بها، إلى جانب أشجار الزيتون والنخيل، أجهزة إلكترونية موصولة بالإنترنت، تمكن المتصفحين من الإبحار إلكترونيا.

ويوجد في «عرصة مولاي عبد السلام»، التي تمتد على مساحة 8 هكتارات، مسرح صغير في الهواء الطلق، كما أنها تحتضن معارض ولقاءات ثقافية. ويبقى «متحف الاتصالات»، الموجود عند مدخل الحديقة، فرصة للزائر للتعرف على تاريخ الاتصالات في المغرب، حيث يخال الزائر نفسه يشاهد تحفا عمرها آلاف السنين، خاصة أن الهاتف الجوال، مثلا، الذي تحول اليوم إلى جهاز بحجم أصغر ووزن أقل، يبدو مختلفا، بشكل جذري، عن الهاتف الجوال، كما سُوق أول مرة، الذي يبدو اليوم، بدائيا، بشكل يدفع إلى الشفقة على كل مَنْ تباهى به أول مرة.

ولعل المثير في علاقة «عرصة مولاي عبد السلام» بفندق «المامونية» أن هناك أكثر من رابط تاريخي بين خضرة الحدائق وأحجار البنايات التي تؤثث للمدينة الحمراء. ومن ذلك العلاقة التي توجد بين «عرصة مولاي عبد السلام» و«دار بلارج»، حيث نقرأ في أقصوصة للكاتب الإسباني، خوان غويتسولو، بعنوان «الرجال اللقالق»، حكاية مغربية عتيقة، تقول إن الفلاحين الأمازيغ كانوا يعتبرون اللقالق كائنات بشرية تتلبس مؤقتا شكلها كطيور بغية السفر والتعرف على مناطق أخرى، فإذا عادت إلى البلد استعادت شكلها الأول. وفي المقدمة، التي وضعها غويتسولو لهذه الأقصوصة، نقرأ أنه، ما بين 1803 و1804، «عمد الأمير مولاي عبد السلام، نجل السلطان محمد بن عبد الله، وكان رجلا فقيها يهوى الموسيقى والشعر، إلى تحويل منزل كبير في المدينة العتيقة (لعله دار بلارج الحالية) إلى حبوس موقوف للعناية باللقالق معتلة الصحة. ورغبة منه في توفير أفضل الظروف لعلاجها، خصص للملجأ مداخيل كراء أحد الفنادق. لقد أعيد بناء الملجأ القديم، بعد خرابه، في ثلاثينات القرن الماضي، حسب قواعد المعمار التقليدي في مراكش، وفيما بين 1950 و1985 تم استعمال المبنى مدرسة، ثم ترك مجددا يواجه مصيره، بعد ذلك التاريخ. عندما زرت المكان، في أواسط التسعينات، وجدت أن الحمام قد احتله، كما ألفيت ساحته الجميلة مغطاة بجثامين طيور قضت نحبها، وبالريش والفضلات. واقتنت السيدة سوزان بيدرمان، في سنة 1998، ملجأ اللقالق القديم لإحداث مؤسسة لرعاية الثقافة بالمغرب تحمل اسم (دار بلارج)».

* ماجوريل

* تعتبر حديقة ماجوريل، اليوم، أحد أهم معالم مراكش السياحية، وسميت كذلك نسبة إلى الرسام الفرنسي جاك ماجوريل، الذي ولد في مدينة نانسي الفرنسية عام 1886، قبل أن يحل بمراكش لأول مرة عام 1919، حيث وجد السحر اللازم والفضاء الملائم ليستقر وليواصل مهنته وهوايته رساما. ويقال إن الماريشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي أيام الحماية الفرنسية على المغرب، هو من نصح ماجوريل بالسفر إلى مراكش، المشهورة بمناخها الجاف، وذلك بعد أن وقف على حقيقة إصابته بمرض الربو.

واقتنى ماجوريل عام 1924 قطعة أرض، ليجعل منها حديقة ستشتهر لاحقا باسم «حديقة ماجوريل»، وعنوانا ووجهة سياحية، وهي الحديقة التي سيتم افتتاحها عام 1947. ويبدو أن الاستفادة كانت متبادلة بين الرسام الفرنسي والمدينة المغربية؛ إذ في الوقت الذي استفاد فيه الأول من طقس المدينة الجاف، استفادت هذه الأخيرة من حديقة بمميزات التحفة الفنية، التي أعطتها قيمة مضافة وتنوعا على مستوى تلبية انتظارات الزوار.

وبعد فترة من موت ماجوريل، إثر تعرضه لحادث سير عام 1962، سيقوم إيف سان لوران وبيير بيرجيه بتملك الحديقة، حيث سيعملان على ضمان استمرارها فضاء مفعما بالحياة.

ويذكر الكاتب والباحث المغربي عبد الصمد الكباص أنه «في سنة 1984 عرضت الحديقة للبيع، لكي تحول إلى فندق ومطعم. كان في القرار درجة قصوى من البشاعة لم يحتملها إيف سان لوران. ولأنه لم يكن، كما قال عنه الفنان والخبير في فن الحدائق، عبد الرزاق بنشعبان، (مهووسا بالربح المادي)، فقد تدخل واقتنى الحديقة للحيلولة دون خطر إعدامها الذي بدا حينها وشيكا، فحافظ عليها وطورها لتأخذ موقعها في قلب نسيج المعالم التي تشكل نقطة جذب السياح وعشاق الحدائق من مختلف أنحاء المعمورة».

هكذا، على عكس بعض الحدائق التي ذهبت ضحية هجوم الإسمنت وجشع المقاولين، كان من حسن حظ هذه الحديقة أن يتعهدها بالرعاية فنانان، الأول، جاك ماجوريل، الذي جاء الفن من دنيا الرسم، والثاني إيف سان لوران، الذي جاء الفن من عالم وأضواء الموضة.

ويقول الكاتب والصحافي محمد القنور: «إن حديقة ماجوريل تمثل قيمة مضافة لمراكش، حيث إن السائح حين يأتي المدينة زائرا لا يمكنه إلا أن يفكر في زيارة هذه الحديقة، خصوصا أنها عملة ذات وجهين، فهي حديقة لمتعة العين، كما أنها تخلد ذكرى رسام ترك صقيع أوروبا ليستقر تحت سماء مراكش الدافئة».

ولأن هدوء حديقة ماجوريل يحتاج إلى أصوات تلائمه، طبيعة وفضاء، فإن الزائر يجد نفسه مأخوذا بزقزقة طيور ترافق فتنة الحديقة وطبيعتها الخلابة والاستثنائية.

وتعتبر حديقة ماجوريل، برأي الكثيرين، من أكثر حدائق مراكش سحرا، حيث يجد فيها الزوار مكانا للتعبير الفريد والقوة الروحية الخلاقة، من جهة أنها تزخر بثروة هائلة من نباتات تم تجميعها من القارات الخمس، تتجاور فيها أشجار النخيل والصبار والخيزران ونباتات نادرة أخرى تختصر العالم في حديقة. وليست النباتات وحدها ما يميز الحديقة، فهناك الألوان التي تتناسق فيما بينها مقدمة تنويعا جميلا يسر الناظرين. وكان ماجوريل قد قام، في نهاية عقد الثلاثينات من القرن الماضي، بصباغة مباني الحديقة بلون أزرق ناصع، سيشتهر لاحقا بـ«أزرق ماجوريل».

ويذهب بعض المراكشيين بعيدا وهم يبحثون عن خيط رابط بين نباتات القارات الخمس، التي تؤثث لخضرة وألوان الحديقة، والتوجه الذي اتخذته المدينة الحمراء، وهي تؤكد طابعها العالمي، خصوصا بعد أن تحولت إلى وجهة مفضلة لزوار وسياح من مختلف قارات العالم.

الاقسام

اعلانات