مقالات

البرديات المصرية.. تكشف تفاصيل الحياة اليومية

131

البرديات العربية تعتبر جزءًا مهمًا من التراث والحضارة الإسلامية، التي أضاءت الطريق لمختلف الحضارات وتعاملت معها آخذًا وعطاء من خلال تفاعل وانسجام يؤكد عظمة ديننا وصلاحيته لكل زمان ومكان بعيدًا عن الجمود والانغلاق والتطرف. البرديات تطرح نموذجًا رائعًا في فن إدارة الدولة والمؤسسات بأساليب نظامية تتسم بالحرفية والثبات؛ من خلال نقلها لوقائع حدثت بالفعل – سماحة الإسلام وعدالته مع غير أتباعه وتقبل المسلمين لإخوانهم من أصحاب الديانات الأخرى.. ولم تغفل النواحي الدنيوية فراحت تعرفنا بنظام الأسواق وحركة البيع والشراء في صدر الدولة الإسلامية.

المراجع العلمية تذكر، أن أول اكتشاف لوثائق البرديات اليونانية كان عام 1778، عندما عثر بعض الفلاحين على نحو خمسين لفافة بردية في أحد الحقول، وقد وصلت واحدة منها إلى الكاردينال الإيطالي – استيفانو بورميا – بينما بدأ الاهتمام بالبرديات العربية، منذ نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر ميلادي، بعد أن عثر بعض المزارعين على جرة فخارية صغيرة مختومة، كانت محفوظة في مقبرة أو بئر مجاورة لهرم سقارة المدرج في منطقة الجيزة، بالقرب من دير القديس أرميا “بوهرميس”، حيث عُثر بداخلها على وثيقتين اشتراهما القنصل الفرنسي في القاهرة آنذاك، ويدعى “برناردو دوفيتي”، ونظراً لعدم درايته بمحتواها سلمها للمستشرق الفرنسي المشهور البارون “سلفستر دي ساس”، الذي اعتنى بهما ونشرهما في إحدى الصحف الفرنسية الشهيرة.

وكان هذا أول نشر علمي لوثائق بردية عربية، ومنذ هذا التاريخ بدأت فرق البحث عن البرديات العربية من قبل الأكاديميات الاستشراقية في العالم، ومن الجمعيات والهيئات المعنية بهذا النوع من الدراسات تتسابق على اقتناء أكبر عدد ممكن من البرديات، وخاصة العربية نظرًا لأهميتها التاريخية في كشف جوانب غامضة في التاريخ والحضارة الإسلامية، منذ القرون الأولى للهجرة، وتطور الكتابة العربية كمصدر تاريخي موثوق فيه، لأنها تعاصر الحدث وتكشف تفاصيله!

• نصوص البرديات

وتقتني دار الكتب المصرية مجموعة مهمة ونادرة من نصوص البرديات العربية، تقدر بنحو أربعة آلاف بردية وورق كاغد، يرجع الفضل في جمعها لدار الكتب، “برنارد مورتيز” أول رئيس لدار الكتب المصرية عام 1896 حتى عام 1911، وقد استطاع خلال هذه الفترة جمع هذه المجموعة المهمة والنادرة، وكانت ذروة الجمع والاقتناء ما بين أعوام 1905-1899، حيث تمكن – موريتز – من اقتناء عشرات المئات من برديات الفسطاط والبهنسا والفيوم وأهناسيا والأشمونيين وكوم إشقاو وأدفو وغيرها، كما تمكن من شراء مجموعة أخرى من أحد الهواة في مصر ويدعي – ميشيل كازيرا – وذلك ما بين أعوام 1905-1903 كان قد عثر عليها في مدينة الفيوم.

كما أضيفت إلى دار الكتب مجموعة أخرى غاية في الأهمية والندرة، كانت في حوزة أحد تجار الآثار في الجيزة، ويدعي “الشيخ علي الجابري” وقد وصل عددها حوالي 161 بردية، وذلك عام 1906 وأضيفت برديات عربية أخرى عام 1939 كانت محفوظة في المتحف المصري وتم العثور عليها في الحفائر والتنقيبات الأثرية في بعض مدن صعيد مصر، ووصل عدد البرديات العربية حاليًا إلى نحو أربعة آلاف بردية تم تصويرها جميعًا على ميكروفيلم وحفظها في بيئة آمنة بعيدًا عن مصادر التلف والاندثار.

والمتأمل في نصوص البرديات العربية الأولى يلاحظ إن لغة الكتابة فيها كانت اللغة العربية، التي يغلب عليها اللهجة المصرية العامية، ومن المعروف أن اللغة العربية وفدت إلى مصر مع العرب الفاتحين في زمن الخليفة – عمر بن الخطاب (13-23 هـ/ 634-644) بقيادة عمرو بن العاص، الذي كان له جهود ملموسة في العناية بالنواحي الاقتصادية والزراعية، وقد اختلطت اللغة العربية باللهجات المحلية التي كانت سائدة في مصر آنذاك، وكان أهمها اللغة القبطية – وهي لغة أهل مصر الأقباط – ثم اللغة اليونانية وهي لغة الحاكم البيزنطي واللتين تضاءل استخدامهما بعد فتح العرب لمصر بسنوات قليلة، مما ساعد على انتشار اللغة العربية، التي صار لها الهيمنة في العديد من مجالات الحياة، وكما هو معلوم تاريخيًا، فإن اللغة العربية كانت معروفة في مصر قبل الفتح العربي بسبب وجود العديد من القبائل العربية في بعض الأقاليم بغرض التجارة أو الاستيطان، كما ساعد انتشار الإسلام بعد فتح مصر، ودخول العديد من الأقباط في الدين الإسلامي على انتشار هذه اللغة بين أهالي مصر واتضح ذلك جليًا من خلال العديد من نصوص الأوراق البردية العربية المبكرة، التي حملت أسماء بعض الكتاب والعمال الذين احتفظوا بأسمائهم القبطية، ومنهم من تعلم اللغة العربية حفاظًا على أعمالهم في الدواوين، وذلك لأن العرب الفاتحين كانوا قليلي الخبرة في أعمال التدوين في هذه الفترة المبكرة، ولذلك أبقوا الأقباط على أعمالهم في دواوين الدولة، وانشغلوا هم بمهمة أسمى وهي استكمال فتوحاتهم ولنشر الدين الاسلامي.

وعلى المستوى الرسمي نجد أن البردي كمادة للكتابة بدأ استخدامه في دواوين الدولة بداية من عهد الخلفاء الراشدين، ومرورًا بالعهدين الأموي والعباسي، ولعل الدليل على ذلك ظهور العديد من البرديات العربية، التي تنسب للسنوات الأولى من فتح العرب لمصر، ومنها الوثيقة المؤرخة بعام (13-23 هـ/ 634-644) التي تنسب لعهد الخليفة عمر بن الخطاب وواليه على مصر عمرو بن العاص، وهي عبارة عن “إيصال باستلام أغنام لإطعام الجنود”.

• أقدم بردية

وتعد بردية “أهناسيا” المؤرخة عام 22هـ /642 أقدم بردية عربية، وقد تم اكتشاف برديات عربية حديثة، إحداها مؤرخة بعام 772هـ/1357، ومن ذلك يتبين أن البرديات العربية عاصرت سنوات الفتح الأولى واستمرت حتى قرابة الربع الأخير من القرن 8 هـ /14، وقد ازدادت الحاجة إلى هذا النوع من الورق بعد ظهور الإسلام وانتشار الفتوحات الإسلامية في المشرق والمغرب، بسبب تفضيل الخلفاء والولاة والعمال له على غيره من مواد الكتابة الأخرى؛ ولذا نشطت حركة زراعة وصناعة هذا النبات ورقًا للكتابة في مصر طوال القرون الثلاثة الأولى للهجرة، حيث كان يصدر إلى سائر أقاليم الدولة الإسلامية، ليستخدم في عمل الدواوين وسائر المكاتبات الأخرى الصادرة عن الدولة، وكذا بعض الأشخاص من علماء وقضاة ورجال الفقه، وقادة الجيوش والجنود والتجار وغيرهم..

والمتأمل في نصوص الورقة الأولى من لفافة البردي يجد أنها كانت تمتاز بالبساطة في السنوات الأولى من فترة حكم الأمويين فقد كانت تضم بعض العبارات الدينية مع إشارة لاسم الخليفة أو الوالي، ثم ازدادت كثافة من حيث عدد الآيات القرآنية الكريمة والشهادتين مع البسملة.

أما محتوى البرديات العربية، كان يتصل اتصالًا وثيقًا بأمور الحياة اليومية والمهمة في مصر وبعض البلدان الإسلامية في الشام والجزيرة العربية وغيرها، فهناك على سبيل المثال النصوص الإدارية الصادرة عن دواوين الدولة وبيت مال المسلمين، وهناك الخطابات الصادرة من الخلفاء للولاة ومن الولاة إلى العمال وأصحاب الكور ومنها إلى دافعي الضرائب، وإيصالات الجزية والخراج، وقيمتها وكيفية جمعها وتحصيلها، وإرسالها إلى الديوان ثم توزيعها على مصارف الدولة وسائر مصالحها ومرافقها المختلفة، وذلك عن طريق الكنيسة التي كانت تتولى في تلك الفترة تحصيل الضرائب، وقيدها في الكشوف والسجلات المتعلقة بذلك، وقد ظل الأقباط في أعمال التدوين في مصر حتى منتصف القرن العاشر الميلادي.

وتحتوي البرديات على المكاتبات والمخاطبات الرسمية من كبار الموظفين إلى صغارهم وكذا الالتماسات إلى الخلفاء والأمراء، كما تكشف عن أسماء الخلفاء والولاة والعمال، وأصحاب الجزية والخراج والمحتسبين ورجال الفقه والقضاء وقادة الجيوش والجنود، فضلًا عن العديد من أسماء القرى والمدن والكفور والطرق والأسواق والأسر العربية والمصرية كما توضح النظم البيزنطية والإدارة العربية وكيفية عمل الدواوين من خلال السجلات والكشوف المالية، والبيانات المدونة التي تتصل بإحصاء السكان وتعدادهم وبيان محل إقامتهم وديانتهم.. إلخ، وكذا مسح الأراضي الزراعية، وكشوف العمال والأجراء، والجند وعطاياهم والمراسلات الشخصية وتتضمن أيضًا نصوصًا أدبية وعلمية وفقهية وقضائية ومجالس الصلح وفض المنازعات ووثائق الوقف والهبات والعتق وكذا العقود بشتى أنواعها “زواج، بيع شراء، إيجار، عمل.. إلخ”.

• ضد الافتراءات

كما دحضت بعض البرديات الافتراءات التي ألصقت ببعض الولاة والعمال، ومنهم الوالي الأموي “قرة بن شريك العبسي”، الذي وصفته بعض المصادر العربية بأنه كان “أعرابيًا جلفًا جافيًا، وبأنه كان “سيئ التدبير خبيثًا ظالمًا غشومًا فاسقًا متهتكًا، بينما تثبت البرديات عكس ذلك تمامًا، حيث نقرأ في إحدى البرديات التي تم العثور عليها في “كوم أشقاو” هذه العبارة التي وجهها إلى عماله “وأتقِ الله فيما تلي فإنما هي أمانتك ودينك، ثم أحجر عمالك ونفسك عن ظلم أهل الأرض” وهو ما يؤكد مدى حرص هذا الوالي على حسن سير الإدارة، في الدولة، ومدى مراقبته للعمال وتعقبه للمخالفين منهم، بل وتوعده بمعاقبة المقصرين في أعمالهم!

وكشفت بردية أخرى مدير عدالة الوالي عبد الملك بن رفاعة من عام 99-96 هـ /717-714، وحرصه على مراقبة الله في أعماله وتصرفاته وبراءته من المقولة التي وصفته بها بعض المصادر العربية، عند تشدده وقسوته في جمع الجزية والخراج وأن المقصود بهذا التشدد كان الوالي “أسامة بن زيد التنوخي زمن الخليفة الأموي “سليمان بن عبد الملك” الذي كتب إليه يقول: “احلب الدرحتي ينقطع، واحلب الدم حتى ينصرم!”.

• عدالة الإسلام

كما كشفت تقارير وسجلات البرديات العربية عن الأساليب الدقيقة التي كانت متبعة في تحصيل الضرائب وكيف أن الخليفة هو الذي كان يحدد المبلغ المفترض تحصيله من الرعية، ثم يصدر أوامره إلى الوالي، الذي يقوم بدوره بإبلاغ صاحب بيت المال، الذي يكلف السلطات التي تحت إمرته في عواصم الأقاليم والبنادر، بتنفيذ هذه الأوامر، وبعدها تقوم السلطات بإبلاغ الأهالي على مختلف مستوياتهم وطبقاتهم لسداد ما عليهم من حقوق الدولة.

وتظهر نصوص البرديات مدى سماحة وعدالة حكام المسلمين تجاه أهل الذمة في جمع ضريبتي “الجزية، والخراج”، ومراعاة كافة حقوقهم وأعمالهم الحرفية في الدولة، حيث تكشف إحداها عن استخدام بعض العمال في بناء قصر الخليفة الأموي بدمشق وكذا في بناء مسجد بيت المقدس، وقصر الخليفة بالفسطاط، واستخدامهم في أعمال بناء قصر الخليفة الأموي بدمشق، وكذا في بناء مسجد بيت المقدس، وقصر الخليفة بالفسطاط، واستخدامهم في أعمال بناء السفن في دار الصناعة بجزيرة الروضة في مصر، حيث كانت تقوم بخصم ضريبة معينة منهم دون المساس بحقوقهم ودخولهم الأخرى.

• الموقف من الكنيسة

وكشفت البرديات أيضًا مدى سماحة الحكام المسلمين تجاه الكنيسة القبطية في مصر وجهازها الإكليروس والأقليات الدينية الأخرى، مثل: رهبان ديرسانت كاترين الملكانيين في طور سيناء وحمالة الدولة لكنائسهم، ومرافقها وخدماتها وسائر متعلقاتها ومصادر دخلها، فضلًا عن السماح لأهل الذمة بممارسة شعائرهم، وطقوسهم الدينية، والاحتفال بأعيادهم، دون التدخل في شئونهم الداخلية، وكذا تمتعهم بكافة حقوقهم القضائية والمدنية في الدولة الإسلامية!

ومما يدعم هذا القول ما ذكره المؤرخ الكندي في كتابه “القضاة” أن القاضي “خبر بن نعيم الحضرمي” الذي ولي منصب قاضي قضاة مصر من عام “120-127هـ” كان يقبل شهادة النصارى على النصارى، واليهودي على اليهودي، وكان يسأل عن عدالتهم في أهل دينهم، وكان بعد أن ينتهي من القضاء ما بين المسلمين في المسجد، يجلس على بابه بعد العصر فيقضي بين أهل الذمة، ويحل لهم قضاياهم، ويفصل بينهم على نحو ما ذكره “ابن عبد الحكم” في كتابه “فتوح مصر” في قصة انتصاف الخليفة “عمر بن الخطاب” من “ابن عمرو بن العاص” والي مصر، حين قام بجلده أمام أبيه لاعتدائه على قبطي من أهل مصر.

أيضًا هناك رواية للمؤرخ الكندي تفيد قيام “غوث بن سليمان” بإنصاف امرأة ذمية من أهل ريف مصر، بعد أن استغاثت به في السوق، وهو راكب إلى مجلس القضاء، فنزل إليها وقضى حاجتها، فدعت له.. كما تظهر وثائق “ديرسانت كاترين” ومعظمها عبارة عن أمانات وعهود كان يمنحها حكام وولاة مصر الإسلامية، منذ سنوات الفتح الأولى لمصر زمن الوالي “عمرو بن العاص” عام 18هـ، وهناك من ذكر أن بعض هذه العهود قد منحها الرسول – “عند خروجه في غزوة تبوك عام 9هـ، لأهل الذمة ورهبان الأديرة المقيمين على الحدود ما بين بلاد الحجاز والشام وسيناء، وإن هذه العهود كانت تجدد لهم بصفة دورية ودون أية معوقات مواطنة.

وتكشف نصوص بعض البرديات عن مدى تغلغل العلاقات الاجتماعية بين العرب والأقباط، إذ أن هناك العديد من عقود الزواج، التي تمت ما بين عرب مسلمين وقبطيات من مصر، اقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وزواجه من “مارية القبطية”.

وكان للبرديات العربية فضل كبير في إثبات إشراك العرب لمن أسلم من الأقباط والبربر وغيرهم في ديوان العطاء، ملحقين بدعوة قبائلهم التي أسلموا على يديها، أو الذين انتسبوا إليها برابطة الحلف والولاء، ولعل الدليل على ذلك هو ظهور مصطلح “الموالي” في العديد من نصوص البرديات العربية، وخاصة بعض برديات “الوالي الأموي قرة بن شريك العبسي” منذ عام 90-96 هـ/ 705-709 والمقصود بالموالي هم أهل مصر من الأقباط والبربر والعرب المستنصرة والنوبة، فقد كشفت بعض البرديات أن هناك العديد من هؤلاء الأقوام الذين اتخذوا أسماء عربية إلى جوار أسماء آبائهم وأجدادهم القديمة.. وبينت بعض البرديات العربية مدى الثراء الذي تمتع به بعض أهل الذمة في مصر والشام وغيرها، وامتلاكهم العقارات، والأراضي الزراعية والحيوانات والدواب وغيرها، وذلك نتيجة ممارستهم فنون التجارة والبيع والشراء في ظل تمتعهم برعاية الدولة لهم ولممتلكاتهم.

كما قدمت البرديات ضمن نصوصها العديد من المعلومات عن قيم وأسعار بعض السلع والمنتجات التي اشتهرت في مصر وبعض البلدان العربية بزراعتها وصناعتها، منذ القرون الأولى للهجرة ومنها سلع ومنتجات وحاصلات زراعية، وأجور العمال والطحان والحمال والصائغ وكذا أسعار الحيوانات وكشوف حسابات التجار وعملائهم.. إلخ. وأمتنا بتفاصيل دقيقة عن العقارات والمنازل والأراضي والضياع والمزارع وغيرها، من حيث مساحتها وأبعادها وحدودها وتقاسيم غرفها ومواقعها، وأسماء منازل الجيران والأحياء وأبرز المنشآت المجاورة لهذه العقارات، في مساجد وكنائس إلخ، مما قدم لنا فكرة كاملة عن الدولة الإسلامية ومدى تقدمها! (خدمة وكالة الصحافة العربية)

الاقسام

اعلانات